بعدما أعلن الطبيب وفاتي..
كنت أريد أن اصرخ في وجهه وأقول له باني لا زلت حيا ولا زال عرقي ينبض ولا زالت دمائي تجري..
ولكنني لسبب ما لم اعرف كيف أصرخ كما كنت أفعل دوما..
أردت أن أقوم.. أن أتحرك.. أن أشير بيدي. ..
بإصبعي ..
برموشي السوداء ..
ولكن لسبب غير مفهوم لم أستطع أن افعل شيئا مما أردت أن أقوم به ..
رباه ..
كيف لي أن اخبر الطبيب باني لازلت حيا ..
غير أنه وقع على كشف الوفاة وكأنه يستعجل الخروج ..
في حياتي كنت كثيرا ما اسمع القصص التي تحكي عن أناس دفنوا وهم لازالوا أحياء نتيجة غلطه طبيب أو بسبب تهالك جهاز ( كومن ترشي) ..
يموت الدماغ فيعلن الطبيب الغبي الوفاة ثم يدفن الكثير من الضحايا الأحياء ..
لا ..
أرجوك..
تمهل لا أريد أن أكون كالجثث..
لازلت حيا ..
أقسم على هذا ..
تحتاج فقط أن تغير سماعتك القديمة بأخرى جديدة حتى تسمع نبضات قلبي ..
تحتاج فقط أن تستبدل جهاز الأشعة ( كومن ترشي) بجهاز جديد ..
تحتاج إلى أن تسمع نبضي الداخلي قبل أن توقع هكذا معلنا وفاتي ..
ولكنك مستعجل ووقعت الوثيقة التي تخولني للذهاب إلى القبر وأنا لازلت حيا ..
شعرت بغطاء ثقيل يسقط على وجهي وجسمي ..
وسمعت همهمت الطبيب ومرافقة في الغرفة ..
لا أكاد أتبين منها شيئا ..
بالهول الموقف ..
هل هو الرعب ؟
أم الغطاء اللعين ؟
وصل لمسامعي صوت الطبيب وهو يغلق الباب خارجا وهو يأمر من كانوا بالغرفة نقلي إلى ثلاجة الموتى ..
رباه ..
رباه أنا لا أستطيع أن أتحمل هذا البرد القارص..
في ثلاجة شديدة البرودة ..
وددت لو كان بمكاني أن اصرخ ..
أن استغيث ..
كيف للطبيب أن يجعلني جثه وأنا لازلت حيا ولا زلت عروقي تنبض .. تصرخ .. تستغيث ..
أقترب من سريري ممرضتان وعامل ومسئول عن ثلاجة الموتى ..
يبدو من شكله انه غير مهتم ..
بل انه من الأساس لم ينظر إلي ولو لبرهة ..
كم تمنيت أن ينظر إلى كي يرى في عينأي بريق الحياة عله يتوقف ..
ولكنه مشغول بالنظر باتجاه تلك الممرضتان الحسناوين ..
قاموا بإزالة أسلاك جهاز الإنعاش القلبي ..
وكشف الغطاء عن وجهي تمهيدا لنقلي لثلاجة الموتى ..
بعدها رفعوني على نقاله وهم يرددون يا للمسكين مات دماغيا بفعل سقوط شنيع من بنايه مرتفعة ..
لا تخافوا البرد ..
لا تجعلوا الشتاء يصيبكم بالرعب ..
إذا كان هذا الشتاء مقبولا جميلا ضاحكا ..
كبسمات أمي ..
كان الطريق من غرفتي بالمستشفى نحو الثلاجة طويلا جدا فلا بد من اجتياز العديد من الممرات والدهاليز والأركان حتى نصل إلى الثلاجة..
ولكنهم كانوا مسرعين ولا أعلم لماذا !
كأنهم يريدون التخلص من الجثة الكئيبة جثتي ..!
وصلوا إلى الباب ولحسن حظي كان مغلقا بالمفتاح ..
أنزلوني بعدها ..
وأمر عامل الثلاجة زميله بان يحضر المفتاح سريعا من مكتبه بالأسفل ..
لابد أنها فرصه لن تتكرر ..
علي أن استغل قوتي الداخلية في أطلاق صرخات ولو مكتومة عل العامل القاسي يسمع أنيني فيعرف إني لازلت حيا ..
سأستجمع قواي وسأقوم بتحريك رموشي ..
استجمعت كامل قواي النفسية والعصبية والعقلية والحركية في عمليه هائلة قد لا تتكرر وحركت جزء بسيط من رمشي إلى أعلى ..
أه .. أه .. لقد نجحت أخيرا ..
ولكني تعجبت من أن الوضع أستمر على ما هو عليه ..
قبل أن تتحرك رموشي وفي الوقت نفسه رن جهاز عامل الثلاجة ..
وسمعته بعدها يحادث الطرف الأخر بحميمة وحماس ..
لابد أنه يحادث زوجته ..
أخبرها انه بصدد وضع جثة في الثلاجة ثم ينهي عمله ..
تبا لهذه المكالمة التي أفسدت علي نجاحي في تحريك جزء من جسمي ..
لا تنزعجوا من البرد ..
لا تهابوا الشتاء ..
فالشتاء الضاحك ينضرنا
تذكرت أمي ..
وقهوتها ..
لابد إن فنجاني بارد ينتظرني ..
تذكرت شيباتها ..
وبسماتها الباردة ..
حضر المفتاح سريعا ..
سمعت صرير الباب ينفتح .. حملوني بعدها الى الداخل ...
ابتسمت ..
نعم لا تتعجبوا ..
ابتسمت ..
ولكن سمعت المغسل يقول لصاحبه ان هذه ألابتسامه ماهي إلا كرامه تنير الوجه ..
ليس إلا ..
وكنت اعتقد ان ألابتسامه ستخبرهم انني لازلت على قيد الحياة ..
الرموش والابتسامات لم تعد تفيدني ..
كنت غبي حينما صدقت أن الابتسامات وتحريك الرموش هي دليل قاطع يكتشفوا بعده اني لازلت احيا ولا زالت عروقي تنبض بالحياة ..
وكنت مخطأ في ذالك ..
المكان ذا رائحه عطنه .. مختلطة بروائح بشريه أخرى ..
كالروائح التي نشتمها حينما ندلف الى محل اللحوم المبردة ..
وضعوني على الارض يتشاورون فيما بينهم على أمر لم افهمه ..
المكان مملى بالجثث ..
جثث متحللة ..
وجثث كاملة ..
وجثث ترتسم على أوجهها ابتسامات ساخرة !
نقلوني وكوموني في القسم العام وضعوني بجانب جثث بعضها طازج والبعض الأخر متحلل كما يبدو ..
سمعت صوت الباب يغلق فعرفت أني تركت كي أواجه مصيري ..
الثلاجة بارده كليالي سيبيريا..
لابد انها جسدي سيتخشب مع مرور الوقت ..
كان بجانبي انسان يبدو من هيئته انه مات موته حمقاء ..
تعاطى حبه دواء تزيد من الضغط وهو يعاني من الضغط..
أو ربما تعاطى الزرنيخ السام اعتقادا منه انه نوع من انواع الملح ..
الحقيقه لايبدوا عليه انه انسان ميت متخشب نعم ..ولكنه طري من جهه الوجه واليدين ..
وعلى شفتاه ارتسمت ابتسامه بلهاء ..
وفي الجانب الاخر أستطعت بنظره جانبيه أن اتبين ملامح أمراه ..
نعم أمراه ..
وعجبت لهذا الاختلاط الذي لم أحسب له حساب في حياتي ..
لاضير من الاختلاط حينما نكون موتى أو اشباه موتى ..
حيث لا غرائز ..
لا حب ..
لا ..
لا أكاد اصدق ان هذه الفتاه تبتسم لي ..
يبدو ان هولاء النساء لا يدعون الرجال في حالهم حتى ولو كانوا موتى ..
أنها تريد الإيقاع بي حتى وأنا ميت !
لا تحملوا ذنوبكم معكم في الثلاجة ..
لانغلقوا النوافذ عن بائع السلال والزهر..
لاتزر عوا في أرضكم الا ما تريدون ان تحصدوه فعلا في الثلاجة ..
هل هم أحياء مثلي .. تخشبت أجسادهم من عذاب البرودة ثم ماتوا ..
أم هم موتى فعلا ولم تزيدهم ألبروده الا موت فوق موت !
تمنيت الشمس وعرفت قيمتها ولكن هيهات هيهات لهذا المكان ان تدخله شمس من أي نوع ..
تمنيت ابتسامه حيه كابتسامه والدتي ..
تمنيت أن أحادث احد ..
أي احد لو كان جثة ..
حتى لو كان هذا الحديث بالنظرات ..
أاااه لماذا لا ابدا حديثي إذن مع رفقاء الثلاجة ..
نظرت إلى الرجل الأبله بنظرات حاولت فيها ان استلطفه لمبادلتي الحديث بالنظرات ..
نظرت إلى عينيه فوجدتهما متخشبتان كجسده ..
لإبريق ..
لا حياه ..
لا شي على الإطلاق ..
ونظرت إلى الفتاه المتكومه بجانبي ..
وكلي خجل ..
ففي حياتي كلها لم أتحدث الى أمراه..
بل أني في أحلامي كلها لم أتخيل ان يأتي يوم أتحدث فيه إلى أمراه ..
التقت نظراتنا ..
لم تتخشب عيناها ...هذا أمر حسن ..
التقى البريق مع البريق ..
الحياة مع الحياة ..
والتفت العينان تتحدثان ..
حاولت أن اجعل نظراتي تتسع محاولا إفهامها إن جسدي في طريقه للتخشب من رعب البرودة ..
أطرقت بعينها وكأنها تقول ان هذا أمر مقدر ومكتوب ..
ثم رمشت ومشات سريعات عرفت بعدها انه خائفة ..
رمشت بدوري سريعا ..
حتى أمنحها شيئا من الامان ..
نظرت إليها من زاوية أخرى فوجدت إنها جميله ذات قد نحيل..
والتقت نظراتنا مره أخرى ..
فأشحت بعيني باتجاه الرجل الأبله ..
عيناها قاتله ..
ولكن لأيهم ..
أتستطيع ان تقتل إنسان هو في عداد الموتى !
فلتفعل إن أرادت ..
وجلست أفكر ..
هل أحببتها !
ولم يعد يهمني الموت ..
ولم اعد اشعر بالبرودة ..
بل إن حبي لها قد بدا يدفآ عروقي في هذا المكان المرعب ..
يقولون إن الحمقى وحدهم من يقعون فريسة للحب من أول نظره ..
ولكن ليس على الأجدب حرج ..
فالجثة الماثلة إمامكم لم تقابل أي أمراه في حياتها على الإطلاق ..
إما وقد قابلها في ثلاجة الموتى فليحبها وليكن ما يكون ..!
كانت شمسي ..
وضيائي..
وحبي كله ..
نعم حبي كله ..
أي غندرة أوحت لي تلك العينان الرائعتان ..
وأي بريق شدني لتلك العينان التي لم تتخشب بفعل الحياة أو ألبروده ..
وأي جمال برز لي فجاه من كومه الجثث متجسدا يعينان صافيتان رقيقتان كالثلج ..
طاهرتان كالملائكة ..
تكفيني تلك النظرات حتى أموت في سلام